فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)}
قوله تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ}: يجوز أن تكونَ هذه المسألةُ من باب الإِعمال، وذلك أنَّ {يَقْدُمُ} يَصْلُح أن يتسلَّط على {النار} بحرف الجر، أي: يَقْدم قومَه إلى النار، وكذا {أَوْرَدَهم} يَصِحُّ تسلُّطه عليها أيضًا، ويكون قد أعمل الثاني للحذف مِن الأول، ولو أعمل الأولَ لتعدى ب إلى، ولأضمر في الثاني، ولا محلَّ ل {أَوْرَدَ} لاستئنافِه، وهو ماضٍ لفظًا مستقبلٌ معنىً؛ لأنه عَطَفَ على ما هو نصٌّ في الاستقبال. والهمزة في {أَوْرَدَ} للتعدية، لأنه قبلها يتعدَّى لواحد. قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} وقيل: أوقع الماضي هنا لتحقُّقه. وقيل: بل هو ماضٍ على حقيقته، وهذا قد وقع وانفصل وذلك أنه أوردهم في الدنيا النار. قال تعالى: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} [غافر: 46]. وقيل: أوردهم مُوْجِبَها وأسبابها، وفيه بُعْدٌ لأجلِ العطف بالفاء.
والوِرْد: يكون مصدرًا بمعنى الوُرود، ويكون بمعنى الشيء المُوْرَد كالطِّحن والرِّعي. ويُطلب أيضًا على الوارد، وعلى هذا إنْ جَعَلْت الوِرْد مصدرًا أو بمعنى الوارد فلابد مِنْ حذف مضاف تقديره: وبئس مكانُ الورد المورود، وهو النار، وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأنَّ تَصادُقَ فاعل نِعْمَ وبِئْسَ ومخصوصِها شرطٌ، لا يُقال: نِعْم الرجلُ الفرسَ. وقيل: بل المورود صفةً للوِرْد، والمخصوصُ بالذم محذوف تقديره: بئس الوِرْدُ المورود النارُ، جوَّز من ذلك أبو البقاء وابن عطية، وهو ظاهرُ كلامِ الزمخشري. وقيل: التقدير: بئسَ القومُ المورودُ بهم هم، فعلى هذا الورد مرادٌ به الجمعُ الواردون، والمَوْرود صفةٌ لهم، والمخصوص بالذمِّ الضميرُ المحذوف وهو هم، فيكون ذلك للواردين لا لموضع الوِرْد كذا قاله الشيخ. وفيه نظر لا يَخْفى: كيف يُراد بالوِرْد الجمع الواردون، ثم يقول والمورود صفةٌ لهم؟ وفي وصف مخصوص نعم وبئس خلافٌ بين النحويين منعه ابن السراج وأبو علي.
{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)}
و: {بِئْسَ الرفد المرفود} كالذي قبله. وقوله: {ويومَ القيامة} عطفٌ على موضع {في هذه} والمعنى: أنهم أُلْحِقُوا لعنةً في الدنيا وفي الآخرة، ويكون الوقف على هذا تامًا، ويُبتدأ بقوله: {بِئْس}.
وزعم جماعة أن التقسيم: هو أنَّ لهم في الدنيا لعنة، ويومَ القيامة بِئْس ما يُرْفَدون به، فهي لعنة واحدة أولًا وقَبُح إرفاد آخِرا. وهذا لا يصحُّ لأنه يؤدي إلى إعمال {بئس} فيما تقدَّم عليها وذلك لا يجوز لعدم تصرُّفها، أمّا لو تأخَّر لجاز كقوله:
ولَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنت إذا ** دُعِيَتْ نَزَالِ ولُجَّ في الذُّعْرِ

وأصلُ الرِّفْد كما قال الليث: العطاء والمعونة، ومنه رِفادة قريش، رَفَدْتُه أَرْفِدُه رِفْدًا ورَفْدًا بكسر الراء وفتحها: أعطيتَه وأَعَنْتَه. وقيل: بالفتح مصدر، وبالكسر اسم، كأنه نحو: الرِّعْي والذِّبْح. ويقال: رَفَدْت الحائط، أي: دَعَمْتُه، وهو من معنى الإِعانة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} (هود: 96-97)، وقال في سورة غافر: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (غافر: 23-24)، وقال في سورة الزخرف: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الزخرف: 46)، وقد ذكر صاحب كتاب الدرة هذه الآيات الثلاث لستوائها في الافتتاح والمطالع وانفراد آيتي هود وغافر بزيادة قوله: {وسلطان مبين}، ولم يذكر ذلك في آية سورة الزخرف، وقد ورد في مثل هذا أمثلة في العدد وإن خالفه في المطالع والافتتاح إلا أنها من ضربها وذلك قوله في سورة المؤمنون: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} (المؤمنون: 45-47)، وتقدم في سورة الاعراف: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا} (الاعراف: 103)، وفي سورة يونس: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} (يونس: 75)، فورد في سورة هود وفي سورة المؤمنون وسورة غافر زيادة قوله: {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} ولم تزدد هذه الزياده في السور الثلاث الآخر، وورد في سورة يونس وسورة المؤمنون ذكر تأييد موسي بأخيه هارون، عليهما السلام، ولم يرد ذلك في غيرهما، وانفردت سورة المؤمنون بالجمع بين تأييده، عليه السلام، بأخيه وسلطان مبين، فللسائل أن يسأل عن توجيه ذلك كله لاتحاد الاخبار؟
والجواب عنه، والله أعلم: أنه حيث يذكر سوء رد المرسل اليهم وقبح جوابهم يقابل ابدا تأيده بأخيه أو عضده بالآيات مما يقتضي القهر والإرغام وهو المعبر عنه بالسلطان المبين فيكون ذلك مقابلة لشنيع مجاوبتهم وسوء ردهم بالجملة، فإنه إذا اجتمع افصاحهم بالتكذيب واستكبارهم جمع في التهديد المتقدم بين التأييد بهارون وسلطان مبين، وحيث يصرح بالتكذيب أو ما يعطيه بيانا كقوله: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} قدم ذلك التأييد بالسلطان (المبين)، وحيث تذكرصفتان محوتان على تكذيب من غير إفصاح يقدم ذكر التأييد بهارون، عليه السلام، وما كان دون ما ذكر لم يذكر هارون ولا السلطان المبين، فمن ذلك قوله: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} فإنه اخر تعالى عنهم بأنهم لم تجد عليهم البراهين ولا الآيات، إلا اتباع أمر فرعون، وقوله تعالى مخبرًا عنهم في سورة المؤمنون بقوله: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} (المؤمنون: 46)، إلا ما تبع ذلك محكيا من قبيح قولهم: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا} (المؤمنون: 47-48) وأخباره تعالى عنهم في سورة غافر في قوله: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (غافر: 24)، فهذه المواضع لما ذكر فيها شنيع مرتكبيهم في تلقي دعاء موسى، عليه السلام، إياهم قدم تواطئه لسوء مرتكبيهم تأييده، عليه السلام، السلطان المبين ليفيهم ذلك أخذهم وهلاكهم بسوء مرتكبهم، وقدم في سورة يونس تواطئه لما ذكر فيها من استكبارهم واجترامهم تأييد موسي بأخيه هارون، عليهما السلام، وذلك من السلطان المبين، ولما تضاعف المحكي من مرتكبيهم وقبيح مقالهم في سورة المؤمنون قدم في ذكر إرساله تأييده باخيه والسلطان المبين مقابلة للاخبار عنهم بقوله: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا} (المؤمنون: 46-48)، فاخبر تعالى عنهم بالتكذيب والاستكبار والاجترام والعلو تامردا وعلوا وادعاء المماثلة لهم في البشرية الاختصار لإقدارهما العلية، فقوبل هذا الاسهاب من مقالهم السيء بالإطالة في ذكر التأييد ليتناسب الطرفان. أما حيث لم يرد ذكر السلطان فنجد جوابهم في ذلك دون ما تقدم من التشديد كقولهم في سورة الاعراف: {فَظَلَمُوا بِهَا} (الاعراف: 103)، وقوله في سورة الزخرف: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} (الزخرف: 47)، فليس موقع جوابهم في هاتين السورتين كموقع ما تقدم في الآيتين، فنوسب بين طرفي الإدعاء والجواب. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
قوله جلّ ذكره: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ}.
كَرَّر قصة موسى عليه السلام تفخيمًا لشأنه، وتعظيمًا لأمره، وتنبيهًا على علوِّ قدره عند الله وعلى مكانة الآيات التي أرسله بها، ومعجزاته الباهرة، وبراهينه القاهرة.
ويقال أصعبُ عدوِّ قَهَرَهُ أولا نَفْسُه، وقد دَله- سبحانه- على ذلك لمَّا قال: إلهي! كيف أطلبك؟
فقال: عند المنكسرةِ قلوبهُم من أجلي.
فَنَبَّهَه إلى استصغارِه لنفسه، وانكساره لله بقلبه، فزادت صولتُه لما صار معصومًا عن شهود فضل لنفسه؛ والسلطانُ الذي خصَّه به استولى على قلوبِ مَن رآه، كما قال: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنّي} [طه: 39] فما رآه احدٌ إلا أحَبَّه، ثم إنه لم يأخذه في الله ضعفٌ، مثلما لَطَمَ وجهَ فرعون- وهو رضيع- كما في القصة، ولَطَمَ وجهَ مَلَكِ الموت لمّا طالبه بقبض روحه.... كما في الخبر، {وأخذ برأس أخيه يجرُّه إليه} لمّا رجع من سماع الخطاب عند المعاتبة، وأقدم بالجسارة على سؤال الرؤية، وقتل القبطيَّ لما استعان به مَنْ وافقه في العقيدة، وقال الله: {إِنْ هِىَ إلاَّ فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] لمَّا أخبره الحق بما عمله قومه من عبادة العجل بحكم الضلالة... ففي جميع هذا تَجَاوَزَ اللّهُ عنه لمَا أعطاه من السلطان والقوة.
قوله جلّ ذكره: {فَاتَّبِعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ الْنَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}. رضوا بمتابعة فرعون، فاستحقوا ما استحقه. لم بشعروا بخطئِهم، وكانوا يحسبون أنهم يُحْسَنون صُنْعًا. وإذا ما أوردهم النارَ فهو إمامُهم، وسيعلمون ما أصابهم من الخسران حين لا ينفع تضرعُهم وبكاؤُهم ولا ينقطع عذابُهم وعناؤهم، وتغلب خسارتهم وشقاؤهم- وذلك جزاءُ مَنْ كَفَرَ بمعبوده، وأسرف في مجاوزة حدوده.
{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)}
بَعُدُوا في عاجلهم من الإيمان، وفي آجلهم من الغفران والجِنان والذي لهم في الحال من الفُرقة أعظمُ- في التحقيق- من الذي لهم في المآلِ من الحُرقَة، وهذه صفةُ مَنْ امتحنه اللَّهُ باللعنة. اهـ.

.تفسير الآيات (100- 104):

قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانت هذه الأخبار على غاية منا التحذير، لا يعرفه إلا بالغ في العلم، كان من المعلوم قطعًا أنه صلى الله عليه وسلم لم يأت بها إلا من عند الله للعلم المشاهد بأنه لم يعان علمًا ولا ألم بعالم يومًا، هذا مع ما اشتملت عليه من أنواع البلاغة وتضمنته من أنحاء الفصاحة وأومأت إليه بحسن سياقاتها من صروف الحكم وإفادة تفصيلها من فنون المعارف، فلذلك استحقت أن يشار إليها بأداة البعد إيماء إلى بعد المرتبة وعلو الأمر فقال تعالى: {ذلك} أي النبأ العظيم والخطب الجسيم: {من أنباء القرى} وأكد هذا المعنى بلفظ النبأ لأنه الخبر فيه عظيم الشأن، ومنه النبي، وأشار بالتعبير بالمضارع في قوله: {نقصه عليك} إلى أنا كما قصصناها عليك في هذا الحال للمقصد المتقدم سنقصها عليك لغير ذلك من الأغراض في فنون البلاغة وتصاريف الحكم كما سترى عند قصه؛ ثم أشار- بما أخبر من حلها بقوله: {منها} أي القرى: {قائم وحصيد} إلى أنك مثل ما سمعت ما قصصنا عليك من أمرها بأذنك ووعيته بقلبك تحسها بعينك بمشاهدة أبنيتها وآثارها قائمة ومستحصدة، أي متهدمة لم يبق من بنيانها إلا بعض جدرانها.
ولما كان فيما تقدم في هذه السورة من القصص أشد تهديد وأعظم وعيد لمن له تبصرة، صرح لغليظي الأكباد بأن الموجب للايقاع بهم إنما هو الظلم، فقال تعالى عاطفًا على نحو أن يقال: فعلنا بهم وأنبأناك به: {وما ظلمناهم} في شي منه: {ولكن ظلموا أنفسهم} واعتمدوا على أندادهم معرضين عن جنابنا آمنين من عذابنا فأخذناهم: {فما} أي فتسبب عن اعتمادهم على غيرنا أنه ما: {أغنت عنهم} أي بوجه من الوجوه: {آلهتهم التي} وصور حالهم الماضية فقال: {يدعون} أي دعوها واستمروا على دعائهم لها إلى حين الأخذ، وين خسة رتبتها فقال: {من دون الله} أي الذي له جميع صفات الكمال؛ وذكر مفعول {اغنت} معرقًا في النفي فقال: {من شيء} أي وإن قل: {لما جاء أمر} أي عذاب: {ربك} أي المحسن إليك بتأخير العذاب المستأصل عن أمتك وجعلك نبي الرحمة: {وما زادوهم} في أحوالهم التي كانت لهم قبل عبادتهم إياها: {غير تتبيب} أي إهلاك وتخسير، فإنهم كانوا في عداد من يرجى فلاحه، فلما تورطوا في عبادتها ونشبوا في غوايتها وبعدوا عن الاستقامة بضلالتها خسروا أنفسهم التي هي رأس المال فكيف لهم بعد ذلك بالأرباح؛ والقص: إتباع الأثر، فهو هنا الإخبار بالأمور التي يتلو بعضها بعضًا؛ والدعاء: طلب الطالب الفعل من غيره، ونداء الشيء باسمه بحرف النداء، وكلا الأمرين مرادان؛ و: {من دون الله}: من منزلة أدنى من منزلة عبادة الله لأنه من الأدون، وهو الأقرب إلى جهة السفل؛ والتب: الهلك والخسر.
ولما كان المقصود من ذلك رمي قلوب العرب بما فيه من سهام التهديد ليقلعوا عما تمكنوا فيه من عمى التقليد، قال تعالى معلمًا بأن الذي أوقع بأولئك لظلمهم وهو لكل ظالم بالمرصاد سواء ظلم نفسه أو غيره: {وكذلك} أي ومثل ذلك الأخذ العظيم: {أخذ ربك} ذكّره بوصف الإحسان ما له إليه من البر لئلا يخاف على قومه من مثل هذا الأخذ: {إذا أخذ القرى} أي أهلها وإن كانوا غير من تقدم الإخبار عنهم وإن عظموا وكثروا، ولكن الإخبار عنها أهول لأنه يفهم أنه ربما يعمها الهلاك لأجلهم بشدة الغضب من فعلهم كقرى قوم لوط عليه السلام: {وهي ظالمة} روى البخاري في التفسير عن أبي موسى- رضي الله عنهم- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته». ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك} الآية.
ولما كان مثل هذا الآخذ لا يداينه مخلوق ولا يقدر عليه ملك، حسن كل الحسن إتباع ذلك قوله: {إن أخذه أليم} أي مؤلم قاطع للآمال مالئ البدن والروح والنفس بالنكال: {شديد} أي صعب مفتت للقوى، ولعله عبر هنا باسم الرب مضيفًا له إلى المنبأ بهذه الأنباء مكررًا لذلك في هذا المقام الذي ربما سبق فيه الوهم إلى أنه باسم الجبار والمنتقم مثلًا أليق، إشارة إلى أنه سبحانه يربيك أحسن تربية في إظهارك على الدين كله وانقياد العظماء لأمرك وذل الأعزة لسطوتك وخفض الرؤوس لعلو شأنك، فلا تتكلف أنت شيئًا من قصد إجابتهم إلى إنزال آية أو ترك ما يغيظ من إنذار ونحو ذلك- والله الموفق.
ولما كان مما جر هذه القصص وهذه المواعظ تكذيبهم لما يوعدون من العذاب الناشئ عن إنكار البعث المذكور في قوله تعالى: {ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت}، أشار تعالى إلى تحقق أمر الآخرة وأنه مما ينبغي الاهتمام به ردًا للمقطع على المطلع، وإعلامًا بأنه لا فرق بينه وبين ما تحقق إيقاعه من عذاب هذه الأمم في القدرة عليه بقوله مؤكدًا لأجل جحودهم أن يكون في شيء مما مضى دلالة عليه بوجه من الوجوه: {إن في ذلك} أي النبأ العظيم والقصص والوعظ بما يذكر: {لآية} أي لعلامة عظيمة ودلالة بتة ولما كان وجود الشيء عدمًا بالنسبة إلى ما لا نفع له به، قال: {لمن خاف عذاب} يوم الحياة: {الآخرة} لأنه نفع خاص به، وإنما كان آية له لأنه إذا نظر إلى إهلاكه للظالمين إهلاكًا عامًا بسبب ظلمهم وإنجائه للمؤمنين، علم أنه قادر على ما يريد، وأنه لابد أن يجازي كلًا بما فعل، فإذا رأى أن ظلمه كثيرين يموتون بغير انتقام، علم أنه لابد من يوم يجازيهم فيه، وهو اليوم الذي أخبرت به عنه رسله، وزاد في الإشارة إلى تهويله بإعادة اسم الإشارة في قوله: {ذلك} أي اليوم العظيم الذي يكون فيه عذاب الآخرة: {يوم} وأشار- إلى يسر البعث وسهولته عليه وأنه أمر ثابت لابد منه- باسم المفعول من قوله: {مجموع له} أي لإظهار العدل فيه والفضل: {الناس} أي كل من فيه أهلية التحرك والاضطراب وما ثمّ يوم غيره يكون بهذه الصفة أصلًا.